الاحتلال واتفاق أوسلو.. سببان رئيسيان في توسع ظاهرة القضاء العشائري بالقدس
القدس المحتلة - القسطل: بعد الاحتلال الإسرائيلي شرق القدس في عام 1967، لجأ الفلسطينيون هناك إلى القضاء العشائري باعتباره حلال وبديلا عن التوجه للنظام القضائي التابع للاحتلال. وقد كان هذا التوجه بالأساس سياسي، رفضا للتعامل مع مؤسسات الاحتلال، والشك في نزاهتها وعدالتها، وحتى أحقيتها في البت في القضايا الداخلية للمقدسيين. ثم جاء اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير، وبموجبه تخلت عن إدارة الشأن العام للمقدسيين من حملة الهوية الزرقاء، زاد الاعتماد على هذا النوع من القضاء، الذي وجد فيه كثيرون مدخلا للمنفعة الشخصية والاسترزاق، في ظل وجود محاولات موازية لتنظيم هذا القطاع بشكل يخدم المقدسيين.
اتفاق أوسلو فاقم من ظاهرة الاعتماد على القضاء العشائري، لأن منظمة التحرير وافقت على أن يكون سلطة لجهات إنفاذ القانون أي سلطة في القدس، وبالتالي وجد المقدسي نفسه أمام خيارات صعبة، فمن جهة هو يرفض الاحتكام للنظام القضائي الإسرائيلي، الذي هو إحدى أدوات النظام الاستعماري في تهويد المدينة وإحكام السيطرة عليها، ومن جهة أخرى أصبحت ظاهرة القضاء العشائري فيها عبء عليه بسبب قيام بعض أصحاب النفوذ والقوة بتوسيع هذه الظاهرة لصالحهم، ولأهداف خاصة ساهمت في خلق نخبة جديدة تمتلك القوة والسطوة والمال.
في عام 2009 عقدت دورة للمؤتمر الوطني الشعبي في مدينة القدس، وانبثقت عنه لجنة إصلاح بهدف محاصرة الظواهر السلبية الناشئة عن القضاء العشائري في مدينة القدس، لكن اللجنة لم تتلق الدعم المناسب، كما أن المؤتمر نفسه لم يعد فاعلا كما كان بسبب قلة الإمكانيات المتاحة له، كما أن اللجنة واجهت جهدا إسرائيليا منظما لاستحداث أجسام موازية في محاولة لعرقلة جهودها خاصة وأن بعض أعضائها من الأسرى المحررين وقد اكتسبوا احتراما داخل المجتمع نتيجة لخلفيتهم الثورية، حتى أن رئيسها هو الأسير المحرر ناصر أبو خضير، وهو ما نظرت إليه مؤسسة الاحتلال في القدس بخطورة بالغة.
ولتعويض العجز الناجم عن اتفاق أوسلو، المشار إليه سابقا في سياق هذا المقال، أولت السلطة محافظة القدس خصوصية عالية فيما يخص القضاء العشائري، وقد أصدر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مرسوماً رئاسياً (4557) تم بموجبه تعيين الحاج محمد الأعرج وهو من منطقة السواحرة في القدس كمستشار لشؤون العشائر في فلسطين، كما عيّن الرئيس الحالي محمود عباس الحاج موسى تيم من من بيت حنينا شمالي القدس كعميد رجال الإصلاح في فلسطين.
ولفهم الظاهرة وتفاعلاتها أكثر، قابلت القسطل الحاج زكي عويسات أحد رجال العشائر من جبل المكبر جنوب شرقي القدس الذي قال إنه "لا يتم اللجوء إلى القانون النظامي نظراً لوجودنا تحت سيطرة إسرائيلية بالتالي عند طلب تدخل من الجهات الرسمية سيكون تدخل للشرطة الاسرائيلية وهذا مرفوض تماما داخل المجتمع المقدسي لاعتبارات وطنية وأخلاقية بالدرجة الأولى، بالتالي القانون العشائري يكون هو الحل الأنسب لحل الخلافات من القانون النظامي".
ويتابع عويسات في حديث له مع القسطل أن منطقة جبل المكبر من مناطق السواحرة وهي من التجمعات البدوية في منطقة القدس، وبالتالي الطبع الغالب لهذه المنطقة هو العشائرية وعند حدوث خلاف يتم طلب التدخل من الشخصيات الاعتبارية من العشائر والمجتمع، وأحيانا يكون تدخلهم بشكل تطوعي لحل الخلاف بين الطرفين لحفظ السلم الأهلي، ويتم اتخاذ إجراء يسمى " الرفعة" يستمر لأيام لفهم تفاصيل الخلاف الحادث، وإذا كان هناك معتدي على الطرف الآخر بشكل واضح وصريح يتوجب عليه ما يسمى "عطوة الاعتراف"، وعليها يتم اتخاذ الاجراءات العشائرية المناسبة لحل الخلاف.
وفي ذات السياق يقول الحاج موسى تيم أن القضاء العشائري لا يمكن الاستغناء عنه في أي مكان وهو ليس بديلا عن السلطة التنفيذية (بشكل عام وليس المقصود السلطة الإسرائيلية) لكن هو داعم لها، والقضاء العشائري أسرع بكثير بحل المشاكل من القضايا التي يتم احالتها للقانون النظامي حيث تأخذ اجراءات التقاضي سنوات طويلة، لكن القانون العشائري خلال وقت قصير جدا ينتهي الخلاف وتحقن الدماء، و 90% من القضايا العشائرية يتم حلها قبل تحويلها للقضاء النظامي، وفي القضايا الدموية تحديدا يتم الردع فيها عشائريا أكثر من القانون النظامي ويمكن أن يكون هناك نسبة خطأ في الحل القضايا عشائريا لكن لا تتجاوز نسبة 5% وهذه النسبة تكون تجاوزات بسيطة تتم بعد المصالحة من قبل الطرفين. وفي أكبر القضايا في المحاكم النظامية وان كان الحكم القضائي يوجب الإعدام لا بد من الحل عشائريا.
ويتابع تيم في حديثه لـ القسطل أنه في منطقة القدس بشكل يومي يوجد خلافات ومشاكل يتم حلها بشكل عشائري سواء خلافات يومية بسيطة أو على قضايا العقارات والورث وما إلى ذلك من قضايا مجتمعية، فمثلا في القضايا الدموية التي يرفض فيها القاتل وأهله الاعتراف بالقتل يتم تحويلها إلى ما يسمى "منقع الدم" يتم خلاله الفصل بشكل نهائي من قبل رجال العشائر بخصوص القاتل وأهله.
ومن وجهة نظر قانونية يرى المحامي مدحت ديبة أن خصوصية القضاء العشائري في القدس تكمن في أنه أكثر أمناً من القضاء النظامي خاصة وأن أبناء القدس سيعرضون على المحاكم وأجهزة الشرطة الإسرائيلية، كما أن العديد من رجال العشائر العاملين على حلّ الخلافات على إمتداد الأراضي الفلسطينية غالبهم من داخل مدينة القدس، وغالبا ما تنتدبهم السلطة الفلسطينية للتدخل في الخلافات على مستوى القدس والمدن الأخرى، كما أن أمين عام العشائر في فلسطين وهو عبد الله علقم وهو ذو باع طويل في حل القضايا العشائرية وهو من مدينة القدس وقد اعتقل عدة مرات داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي ولمنعه من أخذ دوره في الحفاظ على السلم والأمن المجتمعي.
ويتابع ديبة في حديث لـ القسطل قائلا إن هذا القضاء في القدس يشكل رادعا لأن مهتمه الاولى تكون هي حقن الدماء ومنع إحداث اي مشاكل جسيمة قد تعقب أي خلاف بين عائلتين مثل حوادث القتل التي عادة ما يتبعها ظاهرة " الدم الفائر" التي يكون أبرز مظاهرها بحرق البيوت وقتل المعتدين أو خطفهم ومن يشتبه بهم، كان ذلك ضرورة لتدخل رجال العشائر للحد من الفلتان الأمني، لذلك يمكن القول أنه هناك دور محمود لهذه العشائر ومنع تكبيرها، لكنه في ذات الوقت لا يلغي دور القانون النظامي والدول ذات السيادة لا تستعين بهذا القضاء لأنه من مقومات سيادة واستقلال الدول وجود سلطات ثلاثة وهذا مفقود في الحالة الفلسطينية في ظل وجود الاحتلال ما يستدعي وجوب القضاء العشائري.
ويشير ديبة إلى أن القضاء العشائري في منطقة القدس جيد في ظل وجود الاحتلال خاصة وأنه يوحد الصفوف ويوجه البوصلة في مدينة القدس، وأنه لا يمكن تطبيق القانون النظامي في العديد من المناطق بعد إقامة جدار الفصل الذي أخرج ما يزيد عن 300 ألف نسمة خارج حدود المدينة المقدسة الأمر الذي سوف يؤدي إلى عدم تطبيق القوانين وعدم وجود أي رادع للخارجين عن القانون، وعند اللجوء إلى "السلطات الإسرائيلية" وتقديم الشكاوى لها عادة لا تتدخل ويتم إغلاقها دون أي حل خاصة إذا كانت هذه الشكاوى لا يوجد فيها طرف إسرائيلي متضرر، لذلك يلجأ الفلسطيني المقدسي للقضاء العشائري.
لكن في المقابل يؤكد عويسات أن القضاء العشائري ليس في كل الأحوال يشكل رادعا خاصة وأن العطوات والإجراءات المفروضة على المعتدين باهظة جداً، ويوجد داخل القانون العشائري محسوبيات لا تعطي الحق اللازم والكامل للمعتدى عليه لأنه في بعض الأحيان يقوم بعض رجال العشائر بالضغط والمحايلة على الطرف المعتدى عليه للقبول بالصلح دون أخذ حقه الكامل، ولكن مميزات القانون العشائري في إمكانية التدخل السريع وحقن الدماء لحل المشكلة دون أضرار مادية وبشرية أكثر، خاصة وأنه يوجد ما يسمى "احترام الوجه" وهذا عرف اجتماعي معمول به بين الناس.
. . .